النظريات الاجتماعية الماركسية من ماركس حتى ألتوسير، عرض موجز

  • النظريات الاجتماعية الماركسية من ماركس حتى ألتوسير، عرض موجز(1)
  • بقلم: د. وليد اللهيوي

النظريات الاجتماعية الماركسية من ماركس حتى ألتوسير

ترك كارل ماركس (1818 -  1883) إثر وفاته مجموعة من المؤلفات، سطر فيها رؤيته الفكرية والفلسفية، من أهمها "البيان الشيوعي" الذي ألفه بمعية رفيقه فريدريك إنجلز (1820- 1895) وقد نُشر سنة 1848 وكذلك كتابه الشهير "رأس المال" الذي نُشر الجزء الأول منه سنة 1867 فيما أتم إنجلز نشر الجزأين الثاني والثالث من الكتاب سنتي 1885و 1894 على التوالي.

يرى كارل ماركس وحدة المعرفة والواقع والإنسان والطبيعة والعلوم الاجتماعية والفيزيائية، كما يرفض التخصص الحديث في العلوم الاجتماعية.

رغم أن جذور الفكر الماركسي تعود إلى الجدل الهيجلي وإلى النقد التنويري، إلّا أن نظرية الصراع الطبقي عنده لم تكن هيجلية المنشأ، ولكنها تعود إلى الاقتصاديين البرجوازيين قبله.

تأثر ماركس بالفيلسوف الألماني هيجل (1770 - 1831) في مسألتي الاغتراب والجدل الذي حوّله ماركس من جدل مثالي إلى جدل مادي، كما تأثر أيضا بالمفكّر الفرنسي سان سيمون (1760 - 1825) أستاذ أوغست كونت (1798 - 1857) مؤسس علم الاجتماع المعروف، ورغم ذلك فإن فلسفة كارل ماركس تُعدّ مناقضة تماما لفلسفة كونت التي رفضها ماركس رفضا تامًّا.

تُعتبر المادية الجدلية من أهم المقدمات الفلسفية للنظرية الاجتماعية الماركسية، صاغها ماركس بعد دمج الجدل الهيجلي بمادية لودفيج فيورباخ (1804- 1872)، دمجٌ أفضى به إلى اعتبار الفكرِ نِتاجا للمادة، على عكس ما يرى المثاليون.

تقول مادية ماركس بالتطور وفق قوانين الديالكتيك الهيجلي الثلاثة: نفي النفي، ووحدة وصراع الأضداد، وتحول الكم إلى كيف.

يرى الباحثون في الفكر الماركسي أن الفكرة الرئيسية التي أخذها ماركس عن هيغل هي صراع الأضداد، ولكن ماركس يدّعي أن أستاذه قلب الأمور حين جعل الإنسانية تمشي على رأسها بتصوره المثالي لحركة التاريخ؛ ذلك أن هيغل يرى أسبقية الفكر على المادة، كما يختزل هيغل حركة التاريخ في حركة الأفكار وصراعها.

يرى ماركس على خلاف أستاذه أن الطبيعة المادية هي الشيء الحقيقي، أما الفكرة المطلقة التي يؤكد عليها هيغل فهي لا تساوي شيئا بالنسبة له، بل إن مصدر الفكر بالنسبة إلى ماركس إنما هو الإنسان مجهّزا بجهاز مادي للتفكير هو المخ، ولا يمكن تصور وجود فكر دون وجود الإنسان.

يقوم المنهج الماركسي في دراسة الظواهر على مجموعة من المبادئ، من أهمها اعتقاد وجود ترابط شامل بين ظواهر الكون التي تحكمها حركة مستمرة متفاعلة، والطابع الشمولي للواقع.

من هذه المبادئ أيضا مبدأ التغيرات الكمية التدريجية والمحدودة التي تؤدي إلى تغيرات نوعية جذرية ثورية ومفاجئة، تأخذ فيها هذه التغيرات اتجاها تقدميا.

من ضمن هذه المبادئ مبدأ التناقضاتُ الداخلية التي تُفضي إلى الحركة والتطور؛ ذلك أن كل ظاهرة أساسية في الطبيعة أو المجتمع تحمل في داخلها عناصر متناقضة تتفاعل جدليا فيما بينها، مُفضية إلى حركة وتطور تنتج عنه ظواهرُ جديدة لم يكن لها وجود من قبل.

تعتمد النظرية الاجتماعية الماركسية على أربع قضايا رئيسة وهي:

أوّلا: المادية التاريخية، وهي عبارة عن تطبيق المادية الجدلية على المجتمع وهو ما يؤدي إلى تصور مادي للتاريخ في تطوره، حيث ترى الماركسية أن البنية التحتية الاقتصادية للمجتمع هي التي تتحكم في البنية الفوقية وما تتضمنه من نظم قانونية وسياسية، وأفكار فلسفية ودينية في كل مرحلة من مراحل التاريخ.

ثانيا: الصراع الطبقي، حيث تعتبر الماركسية صراع الطبقات داخل المجتمع الواحد  محركا أساسيا للتطور الاجتماعي؛ ذلك أن الطبقات الاجتماعية تتحدد وفقا لموقع أفرادها من وسائل الإنتاج، أو وفقا للدور الذي تلعبه في عملية الإنتاج.

ثالثا: الاغتراب، ويبدأ الاغتراب كظاهرة اجتماعية نتيجة انفصال العمال عن وسائل إنتاجهم وعن عملية الإنتاج نفسها في نمط الإنتاج الرأسمالي؛ حيث يصبح العامل أشد فقرا كلما زاد إنتاجه وكلما زادت الثروة التي ينتجها، وكلما ازدادت قيمة الأشياء التي ينتجها العامل انخفضت قيمته كإنسان في هذا العالم.

رابعا: سوسيولوجيا المعرفة، وتُترجم أساسا في العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي، إذ إن أفكار الطبقة المسيطرة في كل عصر هي الأفكار السائدة؛ فالطبقة النافذة مادّيا تتمتع في نفس الوقت بنفوذ فكري، والطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج المادي تسيطر في نفس الوقت على وسائل الإنتاج الفكري؛ لذلك تخضع لها فكريا الطبقاتُ الخاضعة لها ماديا لأن الطبقات الخاضعة تفتقر إلى وسائل الإنتاج المادي.

إثر وفاة كارل ماركس بدأ الجدل يتصاعد حول مضمون فلسفته خاصة داخل الحزب الاشتراكي الألماني، وفي سنة 1899 نشر إدوارد برنشتاين (1850 - 1932) مؤسس الاشتراكية التدريجية كتابه "جدل المراجع"، استعرض فيه قضيتين تدور كلتاهما حول دعوى الماركسية أنها علم اجتماعي؛ فحسب رأيه إذا كانت الماركسية علما فيجب أن تكون قابلة للبرهان الإمبريقي، وأن تكون مدعومة بنظرية في الأخلاق.

مراجعة برنشتاين رفضت فكرة الانهيار الاقتصادي، وتعاظمِ الصراع الطبقي، وتصوّرت أن التحول الاشتراكي سوف يحدث تدريجيّا في المجتمع الرأسمالي من خلال المؤسسات والمثل الاشتراكية.

أما الماركسية الأرثوذوكسية للحزب الاشتراكي الألماني التي يمثلها كارل كاوتسكي (1854 - 1938) والذي أعطى أهميّة للعوامل الأخلاقية والإديولوجيّة؛ فإنها تُصوّر تطوّر الاقتصاد الرأسمالي تدريجيا نحو الانهيار المحتوم ومن جهة أخرى فقد عُرف كاوتسكي الذي كان يلقب بـ "بابا الماركسية" بانتقاده للثورة البلشفية والدولة السوفياتية وما آلت إليه من دكتاتورية، الأمر الذي جعل لينين يهاجمه بشدة في كتابه الشهير "الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي".

التيار الثالث تمثله الماركسيـة النمساوية متمثلة في الحزب الديمقراطي الاشتراكي النمساوي بقيادة فيكتور أدلر (1852 - 1918)  حيث طوّرت نظريّة سوسيولوجية أكثر تفصيلا وتعقيدا تحتفظ بنظرة ثورية تؤكّد على أهمية العمل الإيجابي الواعي للطبقة العاملة المنظمة في حركتها، والمسلّحة بالوعي السياسي للوصول إلى الاشتراكيّة.

بالإضافة إلى هذه التيارات الثلاثة، يُعتبر التصوّر اللّينيني للماركسية من أهم التصورات في تاريخ الفكر الماركسي (مرحلة السيطرة البلشفية 1917 - 1956)؛ حيث يتمثل العنصر الأساسي بالنسبة لرؤية لينين (1870 - 1924) للماركسية في دور الحزب والفلّاحين بوصفهم حليفا للبروليتاريا، وفي شروط النضال السياسي للطبقة العاملة خلال المرحلة الإمبريقية / الاحتكارية للرأسمالية.

تبنى لينين تصورا للماركسية بوصفها الثورة البروليتارية، وكرّس كل جهده في تنظيم سياسي نشط للاستفادة من تطبيقات الماركسية في مجال الاستراتيجية السياسية، وقد أسهم آخرون في تطوير الماركسية كمذهب سياسي إلى جانب لينين من أبرزهم تروتسكي (1879 - 1940)، ثم بعد ذلك تحوّلت الماركسيّة السوفياتيّة إلى أيديولوجية خادمة للسلطة مع ستالين (1878 - 1953).

بعد الحرب العالمية الأولى ظهر الكاتب والمفكر المجري جورج لوكاتش (1885 - 1971) الذي أكد على أهمية الوعي الطبقي والنشاط السياسي في الانتقال إلى الاشتراكية، وفي كتابه "التاريخ والوعي الطبقي" يُعرِّف لوكاتش الماركسية بأنها "ليست في المحل الأول أكثر من التعبير الفكري عن العملية الثورية ذاتها". ويواصل مذهبه طارحا أساسا نظريا فلسفيا للتصور اللينيني عن الحزب ودورِه؛ حيث يقول إن الماركسية "هي الوعي الطبقي الحقيقي للبروليتاريا" التي تمتلك حزبا شيوعيا يعبر عن مشكلها التنظيمي، وبوجه عام فقد اتجه لوكاتش إلى رفض النظر إلى الماركسية بوصفها علما وضعيا للمجتمع مثل علم الاجتماع، بل أكد على فهمها بوصفها فلسفة نقدية تعكس رؤية البروليتاريا الثورية للعالم، كما كانت الفلسفة المثالية الألمانية هي التعبير النظري والفكري للبرجوازية الثورية.

تيار آخر ظهر بين الحربين العالميتين واستمر بعد ذلك عُرف باسم مدرسة فرانكفورت أو المدرسة النقدية، انطلق هذا التيار من معهد الأبحاث الاجتماعية التابع لجامعة غوته. اعتبر رواد هذه المدرسة من أمثال تيودور أدورنو (1903 - 1969)وماكس هوركهايمر (1895 - 1673) أن الماركسية إنما هي نقد للأيديولوجيا أو نقد شامل للثقافة البورجوازية، كما تؤكد المدرسة النقدية على دور الوعي والنشاط الهادف المقصود بوصفه عنصرا أساسيا في خلق أو تغير شكل اجتماعي معين، والوعيُ في تصور هذه المدرسة ليس مجرد ظاهرة انعكاسية، أي ليس مجرد انعكاس محدد لظروف الإنتاج المادي، وليس نتاجا للتفاعل بين الإنسان والطبيعة على نحو مبسط كما قد يفهم البعض؛ بل هو قدرة مستقلة ومتميزة على استخدام اللغة والتواصل مع الآخرين وخلق الرموز وانتهاج التفكير الرمزي.

أفرزت التطورات التي حصلت بعد الحرب العالمية الثانية بروز تيار هام عرف باسم الماركسية البنيوية؛ حيث نشأت الماركسية البنيوية مع الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير (1918 - 1990) والذي سعى إلى تطوير نظرية في المعرفة تقابل الإمبريقية سعى من خلالها إلى إعادة قراءة الماركسية عبر منهج التحليل البنيوي.

يرى ألتوسير أن صراع الطبقات ليس صراعا بين البشر وإنما هو انعكاس آلي لعلاقات الإنتاج، ولا دخل لمسألة الوعي في التطور التاريخي.

أما الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع الفرنسي موريس غودلييه (1934) فيشرح الماركسية البنيوية على أنها مكونة من مبدأين اثنين؛ يتمثل الأول في أن نقطة انطلاق العلم لا تكمن في الظواهر أو المظاهر الخارجية؛ بل في المنطق الداخلي للبنية الذي يوجد فيما وراء العلاقات الظاهرة بين الناس. أما المبدأ الثاني فيتمثل في أن الاتجاه المادي الذي ينطلق منه ماركس لا يمكن أن ينطوي فقط على البحث الطويل في شبكات العلية البنيوية، بل ينطوي أيضا على تقديم النتيجة أو المحصلة الخاصة وغير المتكافئة التي يمكن أن تتم بها البنيات المختلفة خلال عملها ووظائفها المتصلة بشروط إعادة إنتاج تكوينٍ اقتصادي معين.

-------------------------------------

المرجع: محمود عودة، تاريخ علم الاجتماع: الجزء الأول، مرحلة الرواد.


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-