مقال: مقاربة ديموغرافية لجائحة الكورونا - لبنان بعد 100 يوم
للدكتور : د. شوقي عطية
تختلف ظروفُ كتابة هذا المقالة عن المقالتين اللتين سبقتاها في الآداب: فالأولى أتت في ظلّ القلق والخوف اللذيْن انتشرا بين اللبنانيين عند بداية انتشار المرض في لبنان؛[1] والثانية أتت قبل عودة المغتربين، وفي ظلّ انخفاضٍ ملموسٍ للنموّ في عدد الحالات، لتكون وثيقةً بالأرقام تَسمح للقرّاء بمقارنة نموّ الإصابات قبل العودة وبعدها.[2]
ما دفعني إلى كتابة هذه الأسطر هو حالُ التعجّب والاستغراب التي تملّكتْني من الوضع الحاليّ: صحيح أنّ عددَ الإصابات عاد وارتفع، إلّا أنّه بقي دون ما كان يمكن توقّعُه نتيجةً للتفلّت الخطير من إجراءات الوقاية خلال الأسابيع الماضية. ذلك أنّ وسائلَ التواصل الاجتماعيّ ووسائلَ الإعلام ضجّت بصورٍ ومشاهدَ من مختلف المناطق اللبنانيّة لمجموعاتٍ كبيرةٍ راحت تمارس حياتَها وكأنّ شيئًا لا يهدِّد صحّتَها وصحّةَ الآخرين.
ولكنْ، بعد أسابيع على هذه الخروق، خالفت الزيادةُ في الأعداد المسجَّلة لإصابات كوفيد-19 كلَّ توقّعاتنا؛ الأمرُ الذي دفعنا إلى طرح تساؤلاتٍ جدّيّةٍ عن واقع هذه الجائحة في لبنان. فنحن لا نزال ننطلق من مسلَّمةٍ أساسيّةٍ لا يمكن دحضُها، وهي الآتية: إذا كان بالإمكان إخفاءُ عدد المصابين، عن قصدٍ أو إهمالٍ أو غيرِ ذلك، فمن المستحيل إخفاءُ الوفَيات:
- فلبنان بلدٌ صغير، أوّلًا.
- وهو منفلشٌ إعلاميًّا وتواصليًّا، ثانيًا.
- وهو يمرّ بأزمةٍ سياسيّةٍ هي من أعنف الأزمات في تاريخه، ثالثًا، وتجعل كلَّ معارضٍ من معارضي السلطة - على كثرتهم وتشعُّب انتماءاتهم - خفيرًا عليها ومراقبًا لعملها، بانتظار محاسبتها على كلّ هفوة. فكيف إذا تعلّق الأمرُ بوفَياتٍ تظهر فجأةً لعوارضَ شبيهةٍ بكوفيد-19، من دون أن يُعلَنَ أنّ تلك الوفَيات كانت مصابةً به سابقًا؟
إلّا أنّ قناعةً بدأتْ تتسلّل إلى نفسي، وهي أنّ أعدادَ المصابين أكثرُ بكثيرٍ ممّا هو معروف، بعد حال التفلّت المذكور.!
***
شكّل الشهران الأخيران صدمةً عالميّةً لناحية فتك فايروس كورونا 2[3]بالمصابين، وبخاصّةٍ في الدول التي استخفّت سلطاتُها بمدى تأثيره في شعبها أو أنظمتها الصحّيّة. ونذكر من هذه الدول ثلاثةَ أمثلةٍ أساسيّة: المملكة المتّحدة، التي نحت منحى "مناعة الرهط" في بداية التفشّي؛ والولايات المتّحدة الأميركيّة، التي تخبّطتْ سلطتُها في مواجهة الفايروس، ما حوّلها إلى الدولة المصابة بأعلى عددٍ من الوفَيات؛ والسويد[4]التي ما زالت تعتمد على "مناعة الرهط."[5]
وبالعودة إلى تحليل الواقع العالميّ كما هو في آخر أيّار، الذي يَصدف تاريخُ الثلاثين منه اليومَ المئةَ على تسجيل أوّل إصابةٍ بهذا الفايروس في لبنان، فإنّ التحليلَ الآتي يقارن أرقامَ لبنان بأرقام عددٍ من الدول الأوروبيّة والولايات المتحدة ومصر.[6]
لكنْ بدايةً، لا بدّ من تناول أعداد المصابين المؤكّدين. والتشديد هنا على كلمة "المؤكّدين" مردُّه إلى أنّ معظمَ الدول أصبحتْ تَعتبر أنّ العددَ الفعليَّ للمصابين أكبرُ بكثيرٍ ممّا هو مؤكّد. ونستدلّ على ذلك من قناعة معظم المحلِّلين بأنّ النقص في الفحوصات، بسبب العجز المادّيّ أو اللوجستيّ، أدّى إلى عدم اكتشاف الحالات كافّةً، ما دفع إلى عدم التنبّه إلى أنّ حوالى نصف عدد الوفَيات في دولةٍ كالولايات المتحدة قد تكون سُجّلتْ على أنّها غيرُ ناجمة عن الكورونا.[7]
يبيّن الرسمُ البيانيُّ أعلاه أنّ الولايات المتّحدة سجّلتْ أعلى نسبةٍ للإصابات بين الدول المذكورة، وواحدةً من أعلى نِسَبِ الإصابة في العالم. كما يبيّن أنّ اتجاهَ النموّ في أعداد المصابين يختلف بين الدول. ففي حين وصل نموُّ الحالات إلى ذروته في إيطاليا، ويكاد يصل إلى الذروة في فرنسا وألمانيا، نجد أنّ اتجاهَ النموّ لا يزال متسارعًا في المملكة المتّحدة والسويد، مع إمكانيّة أن يتفوّق النموّ في السويد على الدول الأخرى في هذا الرسم.
أمّا في ما يتعلّق بمصر ولبنان، فسنُفْرد رسمًا خاصًّا بهما كي نتمكّنَ من قراءة المعطيات فيهما. وهذا الرسم يشير إلى أنّ كلًّا منهما سجّل نسبةً متقاربةً من الإصابات تزيد عن 200 إصابة لكلّ مليون من السكّان.
غير أنّ مسارَ تطوّر أعداد الإصابات في مصر أخطرُ من لبنان؛ وهذا ما يشير إليه المسارُ التصاعديّ الحادّ لمنحنى مصر. أمّا في لبنان، فقد سُجّلتْ أسرعُ زيادةٍ في النموّ خلال الفترة الممتدّة من 19 آذار إلى 9 نيسان، ثم استقرَّ هذا النموّ، حتّى خُيّل إلينا أنّنا بلغنا الذروةَ وأنّنا تمكّنّا من تسطيح المنحنى. واستمرّ هذا الواقع إلى نهاية الأسبوع الأوّل من أيّار، حيث عادت الإصاباتُ إلى الارتفاع، بالتزامن مع المرحلتيْن الثانية والثالثة من عودة المغتربين إلى لبنان.[10] نشير هنا إلى أنّ عددًا من الحوادث المتفرّقة، الناتجةِ من قلّة الوعي، أدّت إلى انتشار الفايروس بين عددٍ مرتفعٍ جدًّا من الأفراد، مقارنةً بالفترات السابقة؛ فعلى سبيل المثال، كان أحدُ العائدين من السفر، والأشخاصُ الذين احتكّوا به، مسؤولين عن انتقال الفايروس إلى عشرات الأشخاص على مساحة الوطن.
في الأيّام المئة الأخيرة، انخفض معدّلُ الإصابات في معظم دول العالم. وكلُّ دولة سجلّت الذروةَ في يوم معيّن، وإنْ تقاربتْ هذه الأيّامُ في معظم الحالات.
يُبرز الرسمُ أعلاه أنّ الفترة الممتدّة من 21 شباط إلى 7 آذار كانت ذروةَ التفشّي في الدول كلّها، باستثناء إيطاليا التي كانت الجائحةُ تفتك بها قبل هذا التاريخ. ونلاحظ من بعدها هبوطًا في نموّ الإصابات في شكلٍ عامّ. وفي الوقت نفسه، نلاحظ تذبذباتٍ في نموّ الإصابات في مصر ولبنان خلال الفترة الأخيرة، ما يؤشّر إلى عدم استقرار الجائحة فيهما؛ كما تَبيَّن في عددٍ من الأيّام حصولُ انتكاسة (لناحية ارتفاع عدد الإصابات فيها)، وذلك لعدّة أسباب: منها ما كان فرديًّا، كالحالة المذكورة أعلاه في لبنان، ومنها ما كان على علاقةٍ بحملة فحوصاتٍ واسعة تكشف عن المزيد من المصابين، وبخاصّةٍ في مصر التي حصلتْ فيها أكثرُ التذبذبات حدّةً.
يقدِّم عددُ الفحوصات التي تجريها أيُّ دولةٍ فكرةً عن حجم انتشار الوباء فيها. يوضّح عددُ الفحوصات مقسومًا على عدد السكّان مدى استعداد الدولة في حربها على الجائحة. وفي العادة يلعب عددٌ من العوامل دورًا في هذا الاستعداد، وخصوصًا عددُ السكّان مقارنةً بالدخل القوميّ لهذه الدولة. وبالفعل فإنّ البحريْن وإيسلندا تتصدّران قائمةَ الدول التي أجرتْ أكبرَ عددٍ من الفحوصات نسبةً إلى عدد سكّانها، بحيث تكاد تقترب النسبةُ من 200 اختبار لكلّ 1000 نسمة.[11] أمّا في دول عيِّنتنا، فإنّ إيطاليا تحتلّ المرتبةَ الأولى، وهذا ليس مستغربًا بسبب ما مرّت به هذه الدولةُ من معاناةٍ كبرى جرّاء الجائحة.
حين يتعلّق الأمر بعدد الاختبارات، فإنّ الدول الغربيّة، باستثناء السويد، متقاربةٌ (ما يؤكّد إصرارَ السويد على استراتيجية "مناعة الرهط" والاكتفاء بإجراء الفحوصات على مَن تظهر عليه العوارضُ أو يخالط مصابين). أمّا في لبنان ومصر فيَظهر تدنّي عدد الفحوصات بشكلٍ واضح، ما يشير إلى إمكانيّة أن تحتاج هاتان الدولتان إلى إجراء المزيد من الفحوصات لاكتشاف أعدادٍ أعلى من المصابين.
تشير نسبةُ المصابين المرتفعة من بين الفحوصات إلى ضرورة إجراء المزيد؛ فإجراء الفحوصات العشوائيّة يعني ضرورةَ إجراء المزيد مع ارتفاع نسب المصابين.
***
نطرح هنا جملةً من التساؤلات، التي دفعتنا إلى التفكير جدّيًّا في تغيير مقاربتنا المستقبليّة للموضوع. أهمُّها: ما مدى دقّة الفحوصات التي تجريها المختبراتُ اللبنانيّة، ولاسيّما مع ظهور اختلافٍ منهجيٍّ واضح بين اختبارات المستشفى الحكوميّ في بيروت وأحدِ المستشفيات الخاصّة في العاصمة؟
وتفاصيلُ هذه المسألة أنّ المستشفى الأخير أجرى فحوصاتٍ على عشرات الأشخاص في محافظة الشمال، فتبيّنتْ إصابةُ عددٍ منهم بالفايروس. لكنْ، عند إعادة الفحص في المستشفى الحكوميّ، تبيّن أنّ واحدًا منهم فقط أصيب به. هنا أصدر المستشفى الجامعيُّ بيانًا تمسّك فيه بنتائج مختبره، وأكّد "أنّ الفحص الترصّديّ المستعمَل في المستشفى مصمّمٌ لرصد أقلّ كمّيّةٍ ممكنةٍ من الحمض النوويّ من فيروس كورونا، أيْ نتيجة فحصٍ تتخطّى حدّ الـ Ct 35 تعكس كمّيّةً قليلةً جدًّا من الحمض النوويّ[13]، وفي كثير من المختبرات تُعتبر هذه النتيجة سلبيّةً. ونتيجةُ أيّ فحصٍ يتخطّى الـ 35 يكون عادةً لشخصٍ يتعافى من الفيروس، خصوصًا إذا كان خاليًا من الأعراض، وهو ما يحصل لدى نحو 85 في المئة من المصابين."[14] وبالفعل، فقد أظهرتْ نتائجُ فحص هذه الحالات أنّ الـحالات الـ16 التي أعلن المستشفى الحكوميُّ أنّها سلبيّة (أي غيرُ مصابةٍ بالفايروس) قد أظهرتْ نتائجَ تتراوح بين 35 و38 Ct - - وهذا ما أدرجه المستشفى الخاصُّ ضمن تصنيف "إيجابيّ" (أيْ مصاب بالفايروس).
هنا لا بدّ من توضيح بعد النقاط:
1 - تختلف تعريفات "إيجابي" بين منظّمةٍ وأخرى. فبعض المختبرات تعتبر أنّ كلّ نتيجةٍ أقلَّ من 35Ct تدلّ على الإصابة بالفايروس، بينما ترفع مختبراتٌ أخرى الرقمَ إلى 40.[15]
2 - تختلف حساسيّةُ آلات الـPCR (تفاعل البوليميراز المتسلسل) بين مختبرٍ وآخر، تبعًا لجودتها أو جِدّتها.[16]
3 - إنّ مهلة 24 ساعة بين فحصٍ وآخر كفيلةٌ برفع عدد الـ Ct في الفحص، فيصبح أكثرَ ميْلًا إلى السلبيّة.
إلّا أنّ ما نطرحه هنا هو إمكانيّة أن تكون الحالاتُ الحدّيّة، كتلك المختلف عليها في هذه الحادثة، حاملةً للفيروس؛ ما يعني أنّها التقطتْه أولًا، ويمكن أن تنقلَه ثانيًا، وإنْ باحتمالاتٍ ضعيفة. وهذا ما يدفعنا إلى إعادة طرح التساؤل عن إمكانيّةٍ كامنةٍ فينا لمقاومة الفايروس، والأسباب الكامنة وراء هذه الإمكانيّة.
***
بالعودة إلى الوفَيات، وهي الموضوع الأساس الذي دفعنا إلى كتابة هذه المقاربات كلّها، فمن الطبيعيّ أن تزدادَ هذه الوفياتُ مع مرور الوقت. إلّا أن ما يهمنا هنا هو اتجاهُ الوفيات: إلى زيادة أمْ إلى نقصان؟
هنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الانحدارَ الفجائيّ الذي يمكن أن نشهدَه في بعض المنحنيات لا يعود إلى انخفاض عدد الوفَيات التراكميّ (وهذا مستحيل)، بل إلى ارتفاع عدد الإصابات المؤكّدة. فمعدّلُ الوفَيات بالكوفيد-19 هو نتيجةُ قسمة عدد الوفَيات بهذا المرض على عدد المصابين. وعليه، ولمّا كان مدخلُ المعادلة (Nominator) دائمَ الارتفاع، فإنّ الطريقة الوحيدة التي تؤدّي إلى انخفاض المعدّل هي في ارتفاع قيمة المخرج [17] (Denominator). وهذا ما شهدناه في الولايات المتحدة وفرنسا في الأسبوع الأخير من شباط، والأسبوع الأوّل من آذار؛ ما يؤشّر إلى زيادة أعداد الإصابات المكتشفة، وهو ما كان جليًّا في الرسم البيانيّ 3.
استقرّ نموُّ معدّل الوفيات في عددٍ من الدول، ولاسيّما تلك التي أجرت فحوصاتٍ كثيفةً لسكّانها؛ ما يشير إلى إمكانيّة أن تكون قد شخّصتْ غالبيّةَ الحالات. هذا ما نراه في إيطاليا منذ بداية نيسان، حتى إنّ المنحنى أصبح سلسًا من دون أيّ تعرّجاتٍ خلال الشهريْن الأخيريْن مع استقرارٍ واضح، الأمر الذي يدلّ على تراجع ملحوظ في عدد الوفَيات المسجَّلة يوميًّا. أمّا فرنسا، فما زالت الدولةَ ذاتَ المعدّل الأكبر للوفَيات من ضمن المصابين بالفايروس. وأمّا المملكة المتّحدة فإنّ اتجاه المعدّل الذي تسجّله آخذٌ في الانخفاض، ما يعني شبهَ ثباتٍ في أعداد الوفيات التراكميّة، على الرغم من تسجيل أعداد إضافيّة من المصابين.
المثيرُ للاهتمام هو اتجاهُ الوفيات في مصر ولبنان، إذ بلغتْ ذروتَها هناك في الأسبوع الأوّل من آذار، ثم عادت إلى الانحدار، وتُواصل انحدارَها إلى اليوم.
تشير معدّلاتُ الوفيات نسبةً إلى عدد السكان إلى معلومات إضافيّة عن الوفيات واتجاهاتها. بقيتْ إيطاليا صاحبةَ أعلى معدّل وفَيات من بين السكّان حتى الأسبوع المنصرم، إذ تخطّتها المملكةُ المتحدة.
ومن المنحى التصاعديّ السريع للوفَيات في السويد، يُتوقَّع أن يحتلّ هذا البلدُ المرتبةَ الأولى في الوفَيات خلال حزيران الجاري. أمّا ألمانيا فلا تزال تحافظ على معدّل وفَياتٍ منخفض؛ ما يؤكّد جاهزيّتَها التامّةَ لمواجهة الجائحة، على ما بيّنّا في المقال الثاني. وأمّا لتحليل الوفيات في مصر ولبنان بالكوفيد-19، فلا بدّ من عرضهما على رسم بيانيّ منفصل.
يختلف مسارُ الوفَيات المسجَّلة في لبنان ومصر، علمًا أنّ الجائحة بدأتْ عندهما في الوقت نفسه. إلّا أنّ لبنان سرعان ما ارتفع عنده معدّلُ الوفيات في الأسبوع الأخير من شباط، واستمر هذا الارتفاع إلى بداية شهر نيسان، ثم استقرّ منذ ذلك الحين.
إلا أنّ المعدّل في مصر بدأ بمنحاه التصاعديّ ابتداءً من الأسبوع الأخير من آذار، ولا يزال على مسار تصاعديّ متوسّط التسارع إلى اليوم. وهنا نعيد طرحَ التساؤل نفسه عن سبب عدم تسجيل لبنان زيادةً تُذْكر في معدّل الوفَيات منذ ما يزيد عن الخمسين يومًا؟[21]
***
عودًا على بدء، فإنّ مجموعة من التساؤلات كانت وراء كتابتنا لهذه الأسطر، وهي تتلخّص في الآتي:
- ما سبب عدم انتشار الجائحة بنسبٍ تفوق بدرجةٍ كبيرةٍ جدًّا ما هي عليه اليوم؟ بل إنّ زيادة 50 إصابة "فقط" في يومٍ واحد، بسبب تفلّت هنا أو هناك (في بلدة برجا مثلًا)، أمرٌ مستغرب.
- هل عدد الإصابات المؤكّدة دقيق؟
- ما الأسباب التي تجعل من أكثريّة الإصابات من دون عوارض، أو ذات عوارض بسيطة تستدعي الحجْر المنزليّ، لا المستشفى أو العنايةَ المركّزة أو أجهزةَ التنفس إلّا فيما ندر؟
- في حال عدم دقّة أعداد الإصابات، ما السببُ في انخفاض عدد الوفَيات من كوفيد-19 في لبنان عن بقيّة الدول؟
انتشرتْ هذه الأسئلة خلال الأسابيع الماضية، وتعدّدت التفسيرات، من دون أن يرقى أيٌّ منها إلى مستوى النظريّة بسبب غياب أيّ دراسةٍ علميّةٍ شاملة. يذهب أحدُ التفسيرات إلى أنّ اللبنانيين، وبخاصّةٍ المسنّون، سبق أن تلقّوْا لقاحات BCG ضدّ مرض السلّ (وهو لقاحٌ يخلِّف ندبةً واضحةً على الزند أو الفخذ). وكنّا قد أشرنا إلى هذه الفرضيّة في المقال الثاني عند محاولة تفسير الوفَيات المنخفضة في ألمانيا، إحدى أكثر الدول تعمّرًا في العالم. ونشير هنا إلى أنّ معدّل الوفَيات في ألمانيا، من بين المصابين، قد ارتفع من 35 بالألف عند نشر المقال الأوّل إلى 46 بالألف اليوم؛ وهذا ما يؤكّد ما قلناه سابقًا: أنّ ألمانيا تحاول أن تُباعِدَ بين الإصابات لكي لا تُنهكَ نظامَها الصحّيّ، ولكنّها لن تتمكّن من المحافظة على مستوى وفَيات منخفضٍ على المدى الطويل. وما قد يعزِّز فرضيّة علاقة لقاح السلّ بانخفاض الوفيات هو تسجيلُ روسيا معدّلاتٍ منخفضةً جدًّا (قاربت 11.2 بالألف)،[22] شأن دولٍ أخرى أوجبتْ هذا اللقاح زمنًا طويلًا قبل تفكّك الاتحاد السوفياتيّ.
ويذهب "تفسيرٌ" آخر إلى أنّ سببَ انخفاض الوفيات في لبنان هو أنّ المجتمع اللبنانيّ فتيّ. غير أنّنا نرفض هذه المقاربة لأنّ هذا المجتمع هو أكثرُ المجتمعات العربيّة تعمّرًا، إذ تجاوزتْ نسبةُ سكّانه الذين تزيد أعمارُهم عن 65 عامًا 11%،[23] بينما تبلغ 14.67% في روسيا، و1.3% في قطر.
ويذهب "تفسيرٌ" ثالث إلى أنّ اللبنانيين قد كوّنوا "مناعةَ الرهط." بيْد أنّ هذا الأمر غير صحيح لأنّ هذا النوع من المناعة يتطلّب التقاطَ 70% من الشعب الفايروسَ، وهو ما لم يحصل.
وثمة "تفسيرٌ" رابع يقول إنّ الفايروس أصبح أضعف ممّا كان عليه في مرحلة الانتشار الأولى بسبب التحوّلات التي يخضع لها كلّما انتقل من فردٍ إلى آخر. وهذا احتمالٌ قد يكون الأقربَ إلى الصحّة، وإنْ كان بحاجةٍ إلى العديد من الدراسات للتأكّد منه.[24]
هنا لا بدّ من أن نشير إلى عواملَ أساسيّةٍ ساهمتْ في الحدّ من انتشار الفايروس في لبنان، على عكس الدول الغربيّة:
- اعتماد القسم الأكبر من اللبنانيين على وسائل تنقّلهم الخاصّة، وغياب وسائل المواصلات العامّة (وخصوصًا المترو)، وإنْ كان هناك انتشارٌ للباصات المكتظّة بركّابها.
- غياب المباريات الرياضيّة الضخمة، بسبب الأحداث التي عصفتْ بالبلاد.
- الانتشار المحدود لدُور العجزة. وهنا نذكّر بأنّ هذه الفئة هي الأضعف في مواجهة الكوفيد-19.
- التزام اللبنانيين الجيّد بالإرشادات والتعليمات الرسميّة، أقلّه في الفترة الأولى من الجائحة، وإنْ تراجَعَ الأداءُ الرسميّ في التعامل مع الجائحة أمام ضغط أصحاب العمل وضغطِ الشارع والحاجةِ إلى المغتربين وأموالِهم وضعفِ تطبيق القرارات الصادرة.
***
في الفترة الأخيرة برزتْ فكرتان جديدتان استرعتا انتباهَنا. تقوم الأولى على أنّ نسبةً مرتفعةً من البشر، تتراوح بين 40 و60% من مجموع السكّان، قد كوّنتْ "خلايا مناعيّةً" (T Cells) ضدّ فايروسات الكورونا المختلفة، وذلك في الفترة الممتدّة بين العاميْن 2015 و2019. وتكوّنتْ هذه المناعةُ بفعل تعرّضنا الدائم لهذه الفايروسات، ومنها الأنفلونزا الموسميّة. وقد نُشرتْ دراسةٌ في هذا الصدد في مجلة Cell على ما يشير الدكتور غسّان دبيْبو في مقالٍ أخير له في الآداب. ولأهمّيّة هذه الدراسة فقد أعيدَ نشرُها أو الحديثُ عنها في عدد كبير من المجلّات العلميّة في العالم.[25]
ما يعزِّز من احتمال صحّة هذه الفرضيّة هو انتشارُ الأنفلونزا "الموسميّة" في شكلٍ واسعٍ وقاسٍ خلال الشهريْن الأخيريْن من العام 2019، حتى إنّ بعض العاملين في القطاع الصحّيّ دعوْا إلى إقفال المدارس أسبوعًا على الأقلّ في كانون الأوّل 2019.[26]
ولكن انتشرتْ مؤخّرًا بين العاملين في القطاع الصحّيّ، وإنْ همسًا، إمكانيّةُ أن يكون الوباءُ قد وصل إلى لبنان قبل الحالة الأولى التي أُعلن عنها في 21 شباط 2020. يرتكز هؤلاء على الأعراض القاسية النادرة التي ظهرتْ على العديد من نزلاء المستشفيات خلال الأشهر الأخيرة من العام 2019. حينها، ساد اعتقادٌ أنّ معظم الحالات الخطيرة، التي تطلّب العديدُ منها بقاءَ المصابين بها في أقسام العناية المركّزة مدّةً تجاوزت الأسبوعيْن، ناتجةٌ عن الإصابة بفايروس H1N1 (أو "أنفلونزا الخنازير"). إلّا أنّ العاملين في القطاع الصحّيّ اليوم يعتقدون أنّ تلك الحالات هي، في الحقيقة، حالاتُ كوفيد-19، ويرتكزون في اعتقادهم هذا على عددٍ من الحالات التي دخلت المستشفى وكانت قادمةً من الصين.[27]
***
انطلاقًا من الأسئلة المطروحة، والأجوبة المفترضة عليها، قرّرنا عدمَ الاعتماد الحاسم (أو الحصريّ) على المقاربة الديموغرافيّة؛ فهي - وإنْ كانت ضروريّةً جدًّا في بداية الجائحة، وبخاصّةٍ في الدول الأكثر تعمّرًا - فإنّها لم تعد قادرةً على تفسير واقع الكوفيد-19 في لبنان بمعزلٍ عن معطيات أخرى نحن في صدد البحث عنها. وقرّرنا، في المقابل، فتحَ آفاقٍ بحثيّةٍ جديدةٍ لمحاولة معرفة السبب الذي يجعل اللبنانيَّ أقلَّ عرضةً من غيره لناحية التقاط الفايروس. وهذه الآفاق تقوم على تقصّي العوامل التي تميّز شعبًا من آخر، أو دولةً من أخرى، لا على إسقاط الأنماط الإحصائيّة على كلّ الشعوب وكأنّها متشابهة.
وهنا لا بدّ من التشديد على أنّ الأسطر القليلة السابقة لا تعني أبدًا وجوبَ تخلّي اللبنانيّ عن إجراءات الوقاية. على العكس: فنحن أكيدون من أمرٍ واحد، وهو أنّنا لا نعرف عن كوفيد-19 والفايروس المسبِّبِ له إلّا القليلَ، ولا نزال بعيدين كلَّ البعد عن الإحاطة بكلِّ خفاياهما. وقد شهدت الأسابيعُ الماضية تحطيمَ آمالٍ كانت معقودةً على بعض بروتوكولات العلاج، وخصوصًا تلك التي تبنّاها الدكتور ديدييه راوول. كما ثبت خطأُ التفلّت التامّ واعتمادِ مقاربة "مناعة الرهط" تمامًا، كما حصل في المملكة المتحدة، وما قد يحصل قريبًا في السويد.
وعليه، وفي انتظار كلّ جديدٍ يحمل معه إجاباتٍ عن أسئلةٍ مطروحة، لا يمْكننا إلّا تقبّلُ نظامٍ جديدٍ في الحياة قائمٍ على التباعد الفيزيائيّ (الاجتماعيّ)، واعتمادِ كافّة أساليب الوقاية، إلى أن نصل إلى اليوم الذي يصبح فيه كوفيد-19 مجرّد نوعٍ آخرَ من أنواع الإنفلونزا الموسميّة.
مصادر و مراجع:
[1] راجع المقال الأول المنشور: جائحة الكورونا 2019: مقاربة ديموغرافية
[2] راجع المقال الثاني: مقاربة ديموغرافية للكورونا (تحديث - 1): لبنان قبل عودة المهاجرين
[3] تسميتُه العلميّة: SARS COV 2
[4] بدأت الأصواتُ تتصاعد من داخل السويد انتقادًا لسياسة حكومتها تلك. فقد نصحت الحكومةُ السكّانَ، وخصوصًا أضعفهم، بعدم الخروج إلّا عند الحاجة، وبالعمل من المنزل إنْ أمكن، ولكنْ من دون أن تَفرض عليهم ذلك أو من دون أن تؤمّن لهم متطلِّبات الحياة. كان الهدف هو السماح لأكثريّة السكّان، من ذوي المناعة والصحّة، بالتقاط العدوى، الأمرُ الذي سيُضعف حيويّةَ الفايروس ويَخْلق مناعةً جماعيّةً للسكان. وبالفعل، في الأوّل من أيّار، توقّعت الحكومةُ السويديّة أن يكون ما يزيد عن 26% من سكان ستوكهولم قد أصيبوا بالفايروس. وقد نجم اطمئنانُ السلطة هذا عن أنّ أكثر من 80% من المصابين لا يعانون عادةً إلّا عوارضَ تتراوح بين الطفيفة والمتوسّطة. إلّا أنّ المشكلة الأساسيّة أتت من دُور العجزة، وهم الفئاتُ الأكثر عرضةً للإصابة بالفايروس، ولم تقم السلطاتُ السويديّةُ بتأمين أيّ حمايةٍ لهم؛ ما أدّى إلى وفاة 2600 مصاب في السويد من أصل 21500 مصاب، أيْ ما نسبته 12% من الحالات، علمًا أن نِسَبَ الوفاة في الدول الإسكندنافيّة الأخرى لم تتجاوزْ 3%. كان ردُّ السلطات السويديّة أنّ سببَ النسبة المرتفعة يعود إلى نقصٍ في عدد الفحوصات المخبريّة، التي لم تكن قد انتشرتْ في الشكل المطلوب بعد. وتأتي مقاربةُ السويد من مسلّمةٍ مفادُها أنّ الجائحة باقية معنا زمنًا قد يتجاوز السنةَ، ولا يمكن أيَّ دولةٍ أن تبقى مقفلةً طوال هذه الفترة، وعلى السكّان مواصلةُ حياتهم وإنْ في ظلّ إجراءاتٍ صحّيّةٍ ينبغي عليهم احترامُها. ولا تزال السويدُ متمسّكةً بهذا الخيار معلّلةً إيّاه بتوقّع موجةٍ ثانيةٍ للكورونا في الخريف قد تكون أشدَّ وطأةً من الموجة الحاليّة.
[5] تسميةٌ اعتمدناها لتلافي تشبيه البشر بالقطعان، كما ورد في التعبير الأشيع: "مناعة القطيع."
[6] ما كان خيارُ الدول الأوروبيّة والولايات المتحدة إلّا باعتبارها نموذجًا عن الدول "المتقدّمة" الأكثر تأثّرًا بالجائحة. أمّا اختيار مصر فبسبب مقارنتها بلبنان، شقيقِها العربيّ، حيث تعلو الأصواتُ بأنّ كوفيد-19 لا يؤثّر في الدول الفقيرة.
[7] How accurate is the US coronavirus death count? Some experts say it's off by 'tens of thousands'
[8] جميع الدول باستثناء لبنان: احصائيات كورونا لجميع الدول
لبنان: موقع وزارة الصحة: Coronavirus COVID-19 Lebanon Cases
[9] المصادر نفسها للرسم السابق.
[10] يُستخدم مصطلحُ "الذروة" بمعنًى إيجابيّ للإشارة إلى أعلى عددٍ من الإصابات، بحيث يبدأ عددُ الإصابات بالتراجع من بعده. أمّا "تسطيحُ المنحنى" فيعني المباعدةَ، قدرَ الإمكان، بين الإصابات، إفساحًا في المجال أمام النظام الصحّيّ في البلد كي يتمكّن من التعامل مع الإصابات.
[11] المصدر نفسه.
[12] أنظر مصادر هامش 8.
[13] Ct اختصار لعبارة Cycle Threshold، وهي الوحدة المستخدمة في فحوصات الكورونا، وتشير إلى التفاعل الفايورسيّ مع الاختبار، بحيث يُعتبر انخفاضُ أعداد الـCt دليلًا على اكتشاف الحمض النووي لفايروس SARS COV 2 المسبِّب لمرض الكوفيد-19. أنظر: What is the threshold cycle or Ct value?
[16] للمزيد من المعلومات حول هذه المسألة، أنظر:
WHO Emergency Use Assessment Coronavirus disease (COVID-19) IVDs PUBLIC REPORT
- Temporal dynamics in viral shedding and transmissibility of COVID-19
[17] معدل وفيات المصابين = عدد الوفيات بالكوفيد-19 (المدخل) مقسومًا على عدد المصابين بالمرض (المخرج). وفي كلّ معادلة قسمة ترتفع قيمةَ الجواب إذا انخفضتْ قيمةُ المدخل و/أو إذا ارتفعتْ قيمةُ المخرج.
[18] هامش 8.
[19] المصدر نفسه.
[20] المصدر نفسه.
[21] شهد 4 حزيران تسجيلَ 50 إصابةً في لبنان، معظمُها في بلدة برجا. إلّا أنّنا لا نزال على اعتقادنا أنّ هذه الأرقام ما تزال دون مستوى التوقّعات التي تحملها لنا "الموديلات" أو الأنماطُ الغربيّة للانتشار في ظلّ التفلّت الاجتماعيّ القائم خلال الأسابيع الأخيرة.
[22] المصدر: Coronavirus Pandemic (COVID-19) – the data
[23] Central Administration of Statistics, Labour Force and Household Living Conditions Survey 2018-2019 (CASL and ILO, Beirut, 2020), p. 4
[24] تشهد الساحة العلميّة نقاشًا حادًّا حول صحّة هذه الفرضيّة:
- Doctors react to study revealing COVID-19 mutations may be weakening: ‘This is virology 101’
[25] يمكن الاطّلاعُ على الدراسة الأصليّة، وعلى عدد من المقالات التي تحدثتُ عنها، من خلال الروابط الآتية:
- Good News on the Human Immune Response to the Coronavirus
- T cells found in COVID-19 patients ‘bode well’ for long-term immunity
- Bout of common cold may give immunity
- Detailed analysis of immune response to SARS-CoV-2 bodes well for COVID-19 vaccine
[26] يمكن الاطّلاع على الخبرين التاليين عن الأنفلونزا الموسميّة في لبنان من خلال الرابطين أسفله:
[27] نحن لسنا البلد الوحيد الذي يمكن أن يكون قد زاره الكوفيد-19 قبل أن يدرك أحدٌ ذلك. فقد أعلن مركزُ ترصّد الأمراض المُعْدية الأميركيّ CDC أنّ موسم الأنفلونزا في نهاية العام 2019 كان من أكثر المواسم قسوةً، إذ أصاب أكثر من 6.4 مليون أميركيّ، ما استدعى إدخالَ 55 ألفًا منهم إلى المستشفيات، ونتج منه 2900 حالة وفاة. هذه الأرقام تعود إلى النصف الأوّل من الموسم فقط، وقد وصفته مجلة تايم بأنّه مرشّح ليكون أكثر المواسم فتكًا في تاريخ الولايات المتحدة الأميركيّة.
أنظر: 2019-2020 Flu Season on Track to Be Especially Severe, New CDC Data Suggests