هيغل : التاريخ، وقانون الجدلية

هيغل التاريخ وقانون الجدلية

مقدمة:

إن المتأمل للنسق الفلسفي لفريدريك هيغل سيجده متمحورا برمته حول فلسفة التاريخ، إلى درجة أنه يرادف بين المفهومين "الفلسفة" و "التاريخ"، وهو مدار كتابيه " محاضرات في فلسفة التاريخ"، "العقل والتاريخ"، حيث ميز هيغل بين مستويات ثلاثة في التاريخ، التاريخ الأصلي، التاريخ النظري، التاريخ الفلسفي، فأما التاريخ الأصلي يشير فيه إلى الأحداث التاريخية كما عايشها المؤرخ أو سمع عنها، كما يسميه أيضا بالتاريخ الجزئي، ثم التاريخ النظري وبمقتضاه يتم تجاوز الشق الأول في محتواه الجزئي إلى الكلي (تاريخ الأمم والشعوب)، وصولا إلى التاريخ الفلسفي ومن خلاله يتم تجاوز المفهومين الأولين إلى مستوى آخر، يحمل هذا المستوى اسم التأمل والتفكير العقلي، وأسس هذا المستوى ترتكز على العقل باعتباره جوهر التاريخ، والتاريخ ليس سوى تاريخ الإنسان، والعقل هو جوهر الإنسان، لذلك فالعقل إذن هو جوهر التاريخ. وبهذا المعنى يكون التاريخ بالنسبة لهيغل هو سلسلة من الثورات يسخر فيها المطلق (المشيئة الالهية) الأفراد والشعوب لتحقيق النمو والتطور نحو الحرية، ومن ثمة فهو الحركة الدائمة من أجل تحرير الإرادة الإنسانية، انطلاقا من أن التغيير هو مبدأ الحياة والحياة البشرية محكومة بالصراع الذي لا يقوى على حله سوى حركة التاريخ، وهذا معناه أن حالة الاستقرار في المجتمعات البشرية هي غير عادية، ولا تعتبر بالنسبة لهيغل في حالة صيرورة تاريخية.

وتميز هيغل بجدليته التي تقوم على ثلاثة مراحل، مرحلة القضية أو الإثبات، ومرحلة النفي أو نقيض الأطروحة، ثم مرحلة التركيب، وهذا التركيب سرعان ما يصبح قضية جديدة تتطلب نقيضا فتركيبا جديدا.. وهكذا دواليك.

فأي تعريف يقدمه هيغل لمفهوم التاريخ؟ وما هي أوجه العلاقة القائمة بين الفلسفة والتاريخ حسب هيغل؟ وما طبيعة منهجه الجدلي؟

1- التاريخ وفلسفة التاريخ عند هيجل:

إن التاريخ عند هيجل يكتسي من الأهمية ما كان بالنسبة إلى أي شعب من الشعوب أياً كانت طبائع عمرانه وسبل معاشه، وأحوال وجوده، وحتى طبائع الإقليم الجغرافي الذي يحيا بين ظهرانيه حيث الجغرافية هي إحدى حقائق التاريخ، وإحدى مقولاته الكبرى، ومن دون المكان يقف التاريخ في الفراغ، وليس ثمة من حدث يجري في الفراغ، إنه يثبت ويضفي اتساقاً على المجرى العفوي للأحداث والوقائع التي جرت لهذا الشعب، وبواسطته يصل هذا الشعب أيضاً إلى الوعي الكامل بحريته: أي بذاته. وذلك بطريق روحه الخالص الذي يعبر عن نفسه في عاداته، وأعرافه، ومؤسساته وأعماله، وبشكل أكثر دقة في قوانينه وتشريعاته ودساتيره بوصفها جميعها تجسيدات للعنصر العقلي الدائم القائم في واقع حياة كيانه السياسي - الدولة- وبوصف هذه الأخيرة هي أيضاً تجسيداً للمبدأ الكلي التاريخي الذي يكونه ذلك الشعب على مسار تقدم التاريخ البشري ككل، وبذلك فإن التاريخ باختصار" يعطي للشعب صورته الكلية، ومن دون التاريخ سيكون وجود هذا الشعب في الزمان ليس سوى وجود هو في ذاته وجود أعمى ولعبة متكررة للإرادة العشوائية في أشكال متعددة” .

يقول ول ديورانت: ” إن التاريخ عند هيجل حركة منطقية جدلية وهو في الغالب سلسلة من الثورات، يستخدم فيها المطلق أثر الشعوب والعباقرة أدوات في تحقيق النمو والتطور نحو الحرية .

يؤمن هيجل بأن التاريخ العام (الشمولي) ميدان لفاعلية الروح، والتي تعبر عن تاريخ الإنسان، وأن الدراسة الفلسفية للتاريخ تعني دراسة التاريخ من خلال الفكر من منطلق ربط الفكر بالواقع حسب رؤيته لما بين الفكر والواقع من صلة .

إذ "أن الهدف الرئيسي لفلسفة هيجل هو تحقيق الوحدة بين الفكر والواقع، وبين الشكل والمضمون على نحو يضمن الجمع بين هذه الأطراف، وتجاوزها في مركب أعلى، ففلسفة هيجل كانت في نظره مركباً يضم كل ما سبقها، لا في ميدان الفلسفة فحسب بل في كل ميادين نشاط الروح الانسانية" .

وبناءً على ما تقدم يتضح جلياً أن نصوص هيجل عن التاريخ العام ومساره جاءت مرتبطة بفكره ومبينا أن التاريخ ينتهي بوعي حرية الروح، لكن بالرغم من هذا فإن القراءات كثيرة من قبل الباحثين لفكرة نهاية التاريخ عند هيجل فنجد احدهم مثلا يقول " ان نصوص هيجل عن مسألة نهاية التاريخ غامضة بصورة ملحوظة" .

ويعد هيجل عند بعض الباحثين الرائد الفعلي لفكرة نهاية التاريخ، فقد كانت مثلا إمبراطورية نابليون في نظر هيجل تحقيق العقل على الأرض حتى عندما سيكون نابليون قد سقط فإن هيجل سيعد النظام الذي أقامه إكمالاً لعمل الثورة الفرنسية وإنه سينتصر حتماً في كل دولة حديثة .

كما نجد هيجل ينفي نفيا الإتهام الذي وجه إلى الدراسة الفلسفية للتاريخ ويرى أنه يوجد عدد لا محدود من الإتجاهات والتصورات الخاطئة التي شاعت عن علاقة الفلسفة بالتاريخ قديما وحديثا، وهنا يبدأ هيجل بتوضيح ما يقصده بالدراسة الفلسفية للتاريخ فيما يلي:

ـ الفيلسوف لا يزاحم المؤرخ في البحث عن الوقائع التاريخية فهو ينحصر دوره في تفسير هذه الوقائع .

ـ الفكرة التي تعتمد عليها الفلسفة وهي تدرس التاريخ هي " أن العقل يسيطر على العالم" أي أن العقل هو جوهر الكون، وبالتالي فهو جوهر التاريخ .

ـ بما أن العقل هو جوهر الطبيعة، فإنه جوهر التاريخ البشري .

ـ فكرة العقل يحكم التاريخ هي نتيجة دراسة تاريخية في بداية الدراسة الفلسفية للتاريخ . نستنتج في نهاية الأمر، أن التاريخ سواء بمفهومه العام أو الفلسفي ليس مجرد عمل إنساني فقط، وإنما هو أيضا عمل كوني، عمل يتيح لنا تحقيق أسمى معانيه، وبذلك فإن طبيعة التاريخ عند هيجل هي طبيعة فكرية، فهو يقوم بعرض المراحل التاريخية والتطورية للعقل ذاته، فالعملية التاريخية في صميمها عملية دياليكتيكية منطقية، والإنتقال من مرحلة الى مرحلة تاريخية أخرى هو انتقال يحدث في سياق الزمن. 2- المحور الثاني : هيغل وقانون الجدلية.

أولا : طبيعة المنهج الجدلي

الجدل أساس تشكل وصيرورة الوجود التاريخي للإنسان وهذا المنهج هو قانون سير الفكر والطبيعة والتاريخ، وليس مجرد تمرين بلاغي كما كان عند السوفسطائيين.

في التفسير الإقتصادي للتاريخ بدوره جانبان: الأول يتصل بالمنهج والثاني يتصل بالمذهب، أم المنهج فهو الديالكتيك الهيغلي، وأما المذهب فهو المادية وإن اختلفت في مفهومها عن سائر المذاهب المادية في الفلسفة.

ومع أنه يتعذر فصل المنهج عن المذهب سواء لدى هيغل أو لدى كارل ماركس فإن ذلك أمر ضروري لأن هذا ما فعله ماركس وإنجلز، لقد خلعا الغلاف المثالي لمذهب هيغل وطرحاه بل وانتقداه، لقد اعتبرا جدل هيغل واقفا على رأسه بدلا من قدميه بسبب هذه النزعة المثالية، فقاما بانتزاع الديالكتيك الهيغلي وألبساه ثوبا آخر ماديا ثم طبقاه على الظواهر الإنسانية والطبيعة معا.

يؤمن هيغل بأن التاريخ العام(الشمولي) ميدان لفاعلية الروح، والتي تعبر عن تاريخ الإنسان، وأن الدراسة الفلسفية للتاريخ تعني دراسة التاريخ من خلال الفكر ومنطلق ربط الفكر بالواقع حسب رؤيته لما بين الفكر والواقع من صلة، إذ أن الهدف الرئيسي لفلسفة هيغل هو تحقيق الوحدة بين الفكر والواقع، وبين الشكل والمضمون على نحو يضمن الجمع بين هذه الأطراف، وتجاوزها في مركب أعلى، ففلسفة هيغل كانت في نظره مركبا يضم كل ما سبقها، لا في ميدان الفلسفة فحسب بل في كل ميادين نشاط الروح الانسانية.

كما يرى أن الجدل الهيغلي هو تقدم مطور للمعرفة، فهو صورة لجدل الأشياء إذا في كل مرحلة ينبثق عنها التناقض من صميم الأشياء من أجل التصاعد نحو التأليف وصولا على وحدة تتحقق في الواقع، فهو قانون تطور الوجود والفكر في آن واحد.

وتقوم فلسفة هيغل في دراسة التاريخ، على أن للتاريخ ظاهرا وباطنا، ظاهره أحداث ووقائع تبدو في حالة فوضى ومن دون هدف، وباطنه تلك الروح التي تجعل له مسارا محكما معقولا، ولن نبصر فعل الروح اذا كانت الدراسة مقصورة على الجزئيات، حوادث أو أفراد، فهؤلاء يحققون أغراض الروح من غير وعي أو قصد، والتاريخ ليس خليطا أعمى من المصادفات ولكنه تطورا عاقلا.

ويرى هيغل أن ماهية العقل أو طبيعة الروح هي عكس طبيعة المادة، فالمادة ماهيتها(الثقل)، والعقل ماهيته(الحرية)، وأن الروح وحدتها داخلية، وليس لديها وحدة خارج ذاتها، وهي لا تعبر عن صفاتها إلا بواسطة الحرية التي لا تكون إلا بالإستقلال، فالإنسان حر بمقدار ما يكون مستقلا. لا يعتمد في وجوده على شيء آخر خارج ذاته، لذلك فإن الروح تسعى بدأب للحصول على هذا الإستقلال، أو ما يسميه هيغل الوعي الذاتي، ومن ثم الحصول على هذه الحرية. وبناء على هذا فإن تاريخ العالم من وجهة نظر هيغل هو صراع من جانب الروح لتصل إلى مرحلة الوعي الذاتي.

إذن نجد أن الجدل الهيغلي يعتمد على فكرة الأضداد ومفادها أن تفسير أي فكرة يقودنا مباشرة إلى ضدها أو نقيضها، يصبح من العسير التمييز بين الفكرة ونقيضها أو فصلها عنها . ويقدم مثال ذلك فكرة الوجود التي هي الضد لفكرة اللاوجود فكلاهما لا يقدم شيئا محددا ونجد أول خطوة يبدأ بها الجدل الهيغلي هي الخطوة المباشرة وفيها يبدو المضوع كما لو كان مستقلا عن غيره. ومن خلال ما سبق فالجدل الهيغلي يقوم على ثلاثة مراحل وهي مرحلة القضية أو الاثبات، مرحلة النفي أو نقيض القضية، ومرحلة التركيب بينهما، وهذا التركيب سرعان ما يصبح قضية جديدة تتطلب نقيضا فتركيبا جديدا…

ثانيا: الجدل وصيرورة التاريخ

إن التاريخ بالنسبة لهيغل هو سلسلة من الثورات التي يسخر فيها المطلق (المشيئة الالهية) الأفراد والشعوب لتحقيق النمو والتطور نحو الحرية، ومن ثمة فهو الحركة الدائمة من أجل تحرير الإرادة الإنسانية، انطلاقا من أن التغيير هو مبدأ الحياة، والحياة البشرية محكومة بالصراع الذي لا يقوى على حله سوى حركة التاريخ. وهذا معناه أن حالة الإستقرار في المجتمعات البشرية هي غير عادية، ولا تعتبر بالنسبة لهيغل في حالة صيرورة تاريخية.

ويبدأ هيغل بأن ينبهنا إلى أنه لا ينوي أن يعرض علينا مجموعة من الملاحظات العامة حول التاريخ أو أن يقدم تاريخا جزئيا قوميا، أعني تاريخ أمة من الأمم، بل التاريخ الكلي أو التاريخ العام أعني تاريخ الإنسان وتطوره الحضاري بغض النظر عما في هذا التاريخ.

لا نعتبر تاريخ الفلسفة كشيء ثابت، مستقر بل كل شيء متحرك وينبغي علينا أن نذكر أفعالا وأسفارا واكتشافات، وأن نسرد قصة الإستحواذ على الملكوت العقلي، ففي العالم لنا شأن مع ملكوت الفكر، لكن الملاحظة الأخرى الواجب تسجيلها هي أن كل تحرك بشري يكون بشريا من حيث هو فكري، نتاج الفكر وبقدر ما يكون أصله ومنطقه الفكر ويكون الفكر فاعلا فيه.

إن الدراسة الفلسفية للتاريخ تعني دراسة التاريخ من خلال الفكر، لأن التاريخ هو تاريخ الإنسان وجوهر الإنسان هو الفكر وكل ما هو إنساني لا يكون كذلك إلا من حيث ما فيه من فكر ومن هنا تثبت نظرية هيغل في التفسير التاريخي وهي أن تاريخ العالم يتمثل أمامنا بوصفه مسارا عقليا، وأن العقل يسيطر على العالم، وأن مسار التاريخ الإنساني إنما هو مسار تطور العقل، فالعقل عند هيغل هو جوهر الطبيعة، كما أنه جوهر التاريخ، وكل الفرق أن العقل الذي يكشف عن مسار التطور التاريخي هو العقل الإنساني الواعي بذاته أي العقل الذي يعي ويعرف ويدرك ما يفعل، أما العقل في الطبيعة فهو عقل كامن ولا يتبدى لنا الا من خلال ما يكتشفه الإنسان من قوانين مفسرة لظواهر الطبيعة، وبالطبع فإن هذه القوانين الطبيعية( الممثلة للعقل في الطبيعة) لا تدرك نفسها ولا تعي ما تفعل، بينما العقل الإنساني بالنسبة للفعل التاريخي، يعي تماما ما يفعل ومن ثم فإن مسار التطور التاريخي هو مسار التطور الإنساني ومدى وعي هذا العقل بقدراته.

وفي سياق الحديث عن الجدل وصيرورة التاريخ عند هيغل سنعرج صوب العلاقة الجدلية بين الحرية والتاريخ وكيف نسج هيغل خيوط هذه العلاقة الجدلية.

إن جدل الحرية والتاريخ هو في جوهره صيرورة الوعي الذاتي للروح بذاتها الذي لاينفك بحال من الأحوال عن الحرية، وهي ماهية الروح وحقيقتها، وعلى مسرح التاريخ، وعلى التدرج، تقضي الروح تلك الماهية وتحققها كاشفة عن صيرورة الوعي تلك، هي ترجمة حية للحركة الداخلية للروح، من أجل أن تمتلك حريتها أو أن تجعل تلك الحرية موضوعية. وقد تلقت هذه الجدلية نقدا لاذعا على غرار ما قدمه كارل ماركس.

إن نظرة كارل ماركس هذه للجدل الهيغلي كأنه الشكل المقلوب المرسم في العين خلافا لحقيقته التي يتموضع فيها على قدميه الماديتين تقف ضدا مقابلا لتفسيرات هيغل حول فلسفة التاريخ.

خاتمة:

على الرغم من البيئة الفكرية التي تجسد تأثر هيغل باللاهوت والفلسفة سواء اليونانية أو الحديثة، وكذا تأثره بتيار عصره، إلا أن ذلك لم يمنعه من تقديم جدل خاص به وهو نتيجة إبداعه الخاص.

ففلسفة التاريخ عند هيغل تعد أكثر أجزاء فلسفته شيوعاً وأميزها شهرة وثراءً معرفياً، ذلك أنه أقامها على أساس دقيق فصل القول فيه من خلال تعريفه للتاريخ نفسه بأنه ليس ذلك المدونات النظرية التي يقوم خلالها المؤرخ بسرد الأحداث والوقائع وتبويبها وتقديمها للقارئ بصورة خطية مستقيمة، كما أنه ليس ذلك النمط الذي يتعرض للوقائع التاريخية الماضية بهدف استخلاص العبر والدروس من ذلك الماضي واقتراح حلول معاصرة اتكاءً على أحداث الماضي باعتبار أن التاريخ شاهد ومهمين على العقل الكلي، وبالتالي فإن أحداثه الماضية التي أدارمن خلالها العقل لتصريف الوقائع التاريخية الماضية صالحة لاستخلاص الآلية المناسبة منها لإدارة الوقائع الحالية، فهذا كله وأمثاله لا يعد في نظر هيجل تاريخاً بالمعنى الفلسفي لكلمة التاريخ إلا بمقدار تقديمه للأحداث التي وقعت كناحية وصفية ليس إلا.

والجدل عند هيغل هو قانون تطور الوجود وحركة الفكر في آن واحد، فهيغل عندما اكتشف ضرورة التناقض والصيرورة والتجاوز المستمر فهو لم يكتشف قانونا فكريا محض، بل كشف لنا عن قانون واقعي، كما نجد أن هيغل قد قدم الجديد من خلال حالة الجدل من صورته السلبية إلى الإيجابية فالغاية الأساس التي يقوم عليها الجدل هي الرقي، فالأفكار حسب هيغل لا يمكن أن تتطور إلا في ظل الجدل.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-