الابستمولوجيا: فكرة عامة ومختصرة:
"الأبستمولوجيا" كلمة ذات أصل إغريقي
مركب من شقين هما "ابستمي" التي تحمل عدة معاني منها؛ المعرفة، الفهم أو
الإدراك، بينما يعني الشق الثاني "لوغوس" العقل، الحجة، أو السردية. وتجدر
الإشارة أن عمر الأبستمولوجيا كمجال أو حقل معرفي يقارن بعمر الفلسفة ذاتها، لكن الكلمة
لا يزيد عمرها عن قرنين من الزمن. تميزت الأبستمولوجيا كحقل معرفي بتعدد مناحيها وقد
تجسد ذلك في اهتمام المفكرين بها، وانشغالهم بفروعها المتعددة عبر التاريخ. انطلاقا
من أفلاطون الذي انشغل بمعرفة كيف يحقق الإنسان المعرفة وما الفائدة منها، وصولا إلى
برتراند رسل B. Russel الذي كان مهتما بإمكانية تبرير العلم الحديث من خلال الخبرة الحسية، مرورا
بجون لوك J. Lock الذي انشغل بمحاولة فهم آليات عملية الفهم لدى الإنسان، وإيمانويل كانط Kant الذي ركزت الأبستمولوجيا لديه على استكشاف ظروف الفهم لدى البشر. فضلا عن
الإسهامات الحديثة للمفكرين وفلاسفة العلم أمثال غاستون باشلار صحاب القطيعة الإبستمولوجية،
وكارل بوبر صحاب فكرة التكذيب، وتوماس كون صاحب فكرة الثورات العلمية والبراديغمات،
وجون فايربند وفكرته المناهضة للمنهج، وأمري لاكاتوش صاحب البرامج البحثية، ولويس ألتوسير
، وميشال فوكو وغيرهم.
في المقابل ركزت معظم الجهود الحديثة في الأبستمولوجيا
على محاولة فهم كيف تحدد الأدلة بطريقة عقلانية درجة الثقة بمعارفنا. كما تهتم الأبستمولوجيا
بفهم طريقة تأثير المصالح على الأدلة، وعلى القيود العقلانية الموضوعة على نشاط الباحثين
بصفة عامة. في جميع هذه الحالات، تسعى الأبستمولوجيا كنظرية للمعرفة إلى فهم النجاح
المعرفي بأنواعه المختلفة، أو بالمقابل، الفشل المعرفي.
باختصار، يمكن القول إن الابستمولوجيا فرع من
الفلسفة تهتم بدراسة طبيعة المعرفة ومصادرها وحدودها. وتعالج بشكل خاص مجموعة الأسئلة
الرئيسية التالية:
1- السؤال الأول؛ ما طبيعة المعرفة التقريرية؟
أي المعرفة التي تفيد بأن قضية معينة حول العالم صحيحة؟ إن معرفة قضية معينة يستدعي
توفر عدة أشياء؛ أن نؤمن بها، وأن تكون صحيحة، كما تقتضي شيئا آخر أكثر من ذلك، شيئا
ما يميز المعرفة عن مجرد التخمينات المحظوظة. بمعنى أنها تقتضي وجود ضمانة أو ضمانات
حول صدقها. وذلك ما شغل جزءً معتبرا من جهد الفلاسفة الذين بحثوا عن ضمانات لصدق المعرفة.
2-السؤال الثاني؛ كيف نُحَصِل المعرفة؟ بينما
يمكن للإنسان أن يصيغ عددا من المعتقدات الصحيحة بمجرد اللجوء لبعض التخمينات المحظوظة،
فإن الوصول إلى معتقدات مضمونة ليس أمرا واضحا. وأكثر من ذلك فإن معرفة العالم حولنا
تقتضي التفكير فيه. لكنه ليس واضحا من أين نأتي بالمفاهيم التي نستخدمها في التفكير،
أو ما هي الضمانات، إن وجدت أصلا، بأن الطرق التي على أساسها نقسم العالم باستخدام
مفاهيم معينة تنتج حالات مطابقة فعلا للانقسامات الموجودة في ذلك العالم.
3- السؤال الثالث؛ ما هي حدود معارفنا؟ تقع بعض
جوانب العالم الذي نعيش فيه ضمن نطاق تفكيرنا لكنها تتجاوز حدود معرفتنا، وإذ يجد الإنسان
نفسه في مواجهة بدائل عديدة من التوصيفات، فإنه لا يستطيع الجزم أي منها صحيح. في المقابل،
قد تتجاوز بعض جوانب العالم حدود تفكيرنا بحيث لا يمكننا توصيفها بشكل معقول، ناهيك
عن معرفة ما إذا كان التوصيف صحيحا أم لا.
تستند نظرية المعرفة على عدد من المذاهب التي
تعبر عن مواقف متباينة في تعاملها مع الواقع وتحديد طبيعته (الأنطولوجيا أو طبيعة الوجود)
، وكيفية إدراكه، وطبيعة العدة المعرفية (الوسائل والأدوات) المستخدمة لتحقيق هذه الغاية
(الإبستمولوجيا). من أهم تلك المذاهب ما يعرف بالمذهب العقلي، والمذهب الحسي (الإمبريقي).
يتخاصم هذان المذهبان المكونان لنظرية المعرفة حول مكانة الخبرة الحسية وأهميتها في
تحصيل معرفة حقيقية عن الواقع. إذ بينما يؤكد العقليون وجود أساليب عديدة لتحقيق المعارف
والمفاهيم بشكل مسسقل عن الخبرة الحسية. يدعي أنصار المذهب الحسي، في المقابل، أن الخبرة
الحسية تمثل المصدر النهائي لكل معرفة ولجميع المفاهيم التي يستخدمها البشر. يبرز الاختلاف
الأساسي بين المذهبين حول منطوق السؤال الثاني الذي يخص مصادر المفاهيم والمعرفة التي
نمتلكها. كما يؤدي الاختلاف بين المذهبين حول هذه القضية في حالات معينة إلى تقديم
إجابات متعارضة حول الأسئلة الأخرى أيضا. إذ يمكن للمذهبين الاختلاف بشأن ضمانات صدقية
المعرفة، أو حدود التفكير والمعارف ذاتها. وسيتم التركيز هنا على الإجابات المتباينة
التي يقدمها المذهبان؛ العقلي والحسي حول السؤال الثاني.
لقد طور العقليون موقفهم بالعمل على مسارين؛ يقوم الأول على الاعتقاد بوجود حالات يتجاوز فيها مضمون المفاهيم، والمعارف التي ننتجها المعلومات التي بإمكان الخبرة الحسية توفيرها. أما الثاني فيقوم على توصيف العمليات التي يقوم بها العقل، بشكل أو بآخر، لأجل توفير معلومات إضافية تتجاوز الخبرة الحسية حول البيئة التي نوجد فيها. أما أنصار المذهب الحسي فيقترحون مسارات أخرى للتفكير؛ إذ يوصون أولا، بتوصيف طريقة توفير الخبرة الحسية لتلك المعلومات التي يشير إليها العقليون، على شرط أن تكون بحوزتنا في المقام الأول. ويهاجم الحسيون، ثانيا؛ طريقة توصيف العقليين للفكرة التي مفادها أن العقل هو مصدر المفاهيم أو المعارف.