النظرية المادية الجدلية والمادية التاريخية

النظرية المادية الجدلية والمادية التاريخية 

النظرية المادية الجدلية والمادية التاريخية :

 1- المادية الجدلية:

 يعتبر "كارل ماركس" (Karl Marx)، و"فريديريك إنجلز" (Friedrich Engels) المؤسسان للنظرية المادية الجدلية، والتي تسمى بـ"المادية العلمية"، كونها ترى في أنها تعتمد على العلوم التجريبية، التي برزت بفعل ما بعد عصر الاكتشافات والاختراعات التي نتجت عن تطور العلم في أحضان أواخر ملوك ونبلاء العهد الإقطاعي الارستقراطي ثم أكثر بعد انتشار الرأسمالية.

العلوم التجريبية التي أثرت على الفلسفة والتي أنجبت ما بعد قرن الأنوار العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية . كارل ماركس ورفيقه "فريديريك إنجلز"  الذين اشتغلا بالفلسفة بدء، سرعان ما كان لدور العلوم الطبيعية والرياضيات دور في بحثهما محاولة الخروج عن دائرة فلسفة "هيغل" أستاذ ماركس/ هذا الأخير الذي كان في البداية ضمن حلقة ما سمي بـ"الهيغيليين الشباب" والذي سيقلب الطاولة على أستاذه فيما بعد بأن أخذ منه المنهج الجدلي (الدياليكتيكي) وقلبه رأسا على عقب ليصبح العالم "يسير على قدميه، بعد أن كان سابقا يسير على رأسه" كما يقول ماركس. قلب الأمور رأسا على عقب بأن حول الفلسفة إلى علم حياة مادي، رافضا الفلسفة المثالية الكلاسيكية وعالم المثل والأفلاطونية وحتى الأرسطية الكلاسيكية. ومنه كان نقده لفلسفة "فيورباخ". هذا التحول، جعله يميل ويتغير نحو الاقتصاد، فكتب "رأس المال"، الذي يشرح فيه تشكل الرأسمالية والتراكم  البدائي لرأس المال كما يسميه ويصور آفاق انهيار الرأسمالية في نهاية المطاف.

يقسم "ماركس" و"إنجلز" ما يسمى اصطلاحا بالفلسفة الماركسية، إلى شقين: شق فلسفي نظري ويسمي "مادية جدلية"  دياليكتكية، وشق تاريخي للتطور الاجتماعي والإنساني ويسمى "مادية تاريخية".

تعتمد المادية الجدلية على 3 قوانين أساسية في التغير وهي التي تعتبر محرك كل تبادل وكل تحول وتغير اجتماعي ومادي، سواء كان ذلك في الجمادات أو الأحياء.

ـ قانون التناقص: حيث تشير النظرية، والتي صنفت ضمن النظريات اللولبية في التغير، على أساس أنها لا تتطور لا بتطور خط مستمر ولا دائري مغلق، تكون فيه نقطة النهاية متطابقة مع نقطة البداية، مما يعني المعادلة الصفرية والعودة إلى نقطة الصفر من جديد، كما لا حظنا ذلك مع النظريات الدائرية التي تتحدث عن انقراض واضمحلال حضارات وبناء حضارة أخرى على "أنقاض الحضارة السابقة".

في النظرية المادية الجدلية، هناك تحول وتبدل وليس انتهاء وموتا، وأن كل حضارة إنما هي استمرار للحضارة السابقة ولكن بشكل مغاير ومختلف، إما عن طريق الطفرة أو التحول البطيء. وهذا ما تقوله النظريات العلمية في علوم الأحياء بشأن التطور لدى الأحياء المجهرية، حيث تتميز بعض الكائنات بما يسمونه "الطفرة الجينية" (Une mutation génétique)، بما يجهل الكائن الثاني هو استمرار جديدة ومغاير للكائن السابق دون أن يكون هو نفسه عينه ولا غيره تماما.

فقانون التناقض، هو قانون شامل ويوجد في كل الأشياء والكائنات وهو سبب تغيرها وتبدلها وتحولها.

ـ قانون "التبدلات الكمية الكيفية": وهو قانون يعتمد على التناقض لأن هذا الأخير جوهري فيما يمثل القانون الثاني نتيجة لقانون التحول، فلولا قاعدة وقانون التحول لما كانت هنا تبادلات لا كمية ولا كيفية. هذا القانون يسري في كل الكائنات مادية أو حية أو اجتماعية.

كيف يعمل هذا القانون؟ هذا القانون يخضع كما اشرنا لقانون التناقض الذي يفع نحو التغيير والتغير: حيث أن تراكم التناقض الكمي، يؤدي حتما إلى تغير وتبدل وتحول حتمي. في المادة السائلة مثلا، نلاحظ كيف أنه إذا غلينا الماء من 1 درجة إلى 90 درجة مئوية، فإن تراكم الحرارة شيئا فشيئا بدء من الدرجة 1 وانتهاء بالدرجة 90، سيعرف الماء حتما تغيرا كيفيا ويتحول إلى بخار. هذه الدورة الكمية للماء، لم تلغ الماء ولم يصل الماء لدرجة الفناء، بل فقط إلى درجة تبدل وتحول وتغير في الشكل. نفس الشيء لو خفضنا درجة الماء نحو درجة الصفر، فنتيجة التراكم الكمي المنخفض لدرجات الحرارة، سيتحول حتما الماء إلى جليد في درجة الصفر. ويمكن عكس ذلك، لو سخنا الماء من جديد إلى ما وفق درجة الصفر،سيتحول الجليد إلى ماء، ثم سيتبخر في درجة ال90، ثم إذا لامسنا الماء المتبخر بجسم بارد لتحول بخار الماء من جديد إلى ماء.. غير أن هذا الماء الناتج عن هذا التقطير، ليس هو نفس الماء المسخن، كونه ماء مقطر ليس فيه أملاح ولا معادن مشابة.. وهذا ما يوصف في النظرية المادية الجدلية بالقانون الثالث: قانون نفي النفي.

ـ قانون "نفي النفي": يربط بقانون التبدلات الكمية الكيفية والذي يخضع هو الآخر لقانون التناقض.

قياسا على الأمثلة السابقة، يلاحظ أنه عند بدء تسخين الماء في درجة 1 مئوية، فإنه نتيجة "التبدلات الكمية"، فعند 90 درجة، ستحدث هناك "تبدلات كيفية" حتما، بـأن يتحول الماء إلى بخار ماء، أو نزولا من 60 درجة مئوية نحو صفر درجة، سيحدث هناك نتيجة هذا "التراكم الكمي" السلبي، أي "الخفض في درجة الحرارة المتواصل"..تحول نوعي كيفي" حتما، ليصبح الماء جليد. الجليد هنا هو نفي للماء، كما أن بخار الماء هو نفي للماء عند درجة حرارة عليا تبدأ عند ال90، أو منخفضة تبدأ عن الصفر درجة. هذا التحول يوصف في المادية الجدلية على أنه "نفي" للحالة السابقة للشيء أو الظاهرة. غير أن تبريد بخار الماء عن طريق التقطير، كما اشرنا سابقا، من شأن ذلك أن يحول البخار إلى ماء من جديد، غير أنه ليس نفس الماء الأصلي، لا من حيث الماهية ولا الطعم إلا من حيث الشكل. هذا التحول الجديد هو "نفي" للنفي، Négation de la négation)). نفس الأمر عندما نسخن الجليد من درجة الصفر وما دون ذلك من درجة سالبة تحت الصفر، ورفعنا درجة التسخين تدريجيا (وهو ما يشار إليه بالتراكم الكمي)، سنحصل حتما عند درجة 1 مئوية على الماء من جديد، لكنه ليس هو الماء نفسه بكل عناصره التي كانت موجودة فيه قبل التجميد.. أو ما قبل الغليان. الماء يفقد بعضا من عناصره عند الغليان أو عند التجميد، وهذا ما يجعل الماء يبدو ماء كما لو أنه هو نفسه عينه الماء الأول، لكن في حقيقة الأمر فهو ماء جديد مختلف متغير متبدل متحول.

2- المادية التاريخية:

نفس القوانين السابقة التي اشرنا إليها مع أمثلة توضيحية للقوانين الثلاثة التي تشكل محرك التغيرات والتبدلات في المادة بأشكالها الصلبة والغازية والسائلة والهوائية..نفس القوانين في نظر المادية الجدلية التاريخية  الماركسية، تسري على المجتمعات والتنظيمات الاجتماعية عبر التاريخ وتطوره، والتي تسميها النظرية ب" التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية (Une formation sociale et économique) ، أو ما يشار إليه في نظريات أخرى للتغير الاجتماعي بالمراحل التاريخية .

هذه التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية (المراحل التاريخية للتطور الحضاري التاريخي في أوروبا، أساسا، باعتبار النظرية تتحدث أكثر عن التاريخ الأوربي، ولم تأخذ بعين الاعتبار بقية الحضارات والقارات..وهو ما يشكل ضعفا وقصورا منهجيا من حيث عينة البحث التاريخي)، بحسب النظرية المادية الجدلية تتمثل في 04 مراحل أو "تشكيلات اقتصادية اجتماعية": المشاعية البدائية، العبودية، الإقطاعية ثم الرأسمالية.

ـ المشاعية البدائية: وهي أول تشكيلة اقتصادية اجتماعية، كما تسميها النظرية المادية الجدلية، وهي تعتمد على المشاعية في كل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فلا وجود فيها للملكية الفردية، كل شيء مشاع بين الجماعة القبلية أو المجموعة الإنسانية البسيطة. حتى الأسرة لم تكن موجودة بحسب النظرية، فالزواج كان مشاعا وجماعيا والأبناء أيضا.

 النظرية تتحدث هنا عن افتراض وجود إنسان تطور هو الآخر عبر عدة مراحل ضمن هذه المشاعية من مرحلة الجني والقطف، التي هي مرحلة العيش على الطبيعة، ثم مراحل متعددة بعدها بدء من الصيد وما عاصره من اكتشافات لأدوات الصيد البدائية، ونمط السكن في الكهوف، ثم مرحلة تدجين الحيوانات وبعض الاكتشافات التي لحقتها من اكتشاف النار والملح وأدوات الزراعة حتى بداية ظهور الملكية الخاصة والاستحواذ على القوة داخل التجمعات البشرية أو القبيلة، وبداية تشكل الملكية الفردية ضمن الزواج والأسرة. هذا ما دفع "إنجلز" إلى كتابة "أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة"، موضحا كيف أنه في غياب "قانون التناقض" في المجتمع المشاعي، أي عدم وجود طبقات وبالتالي انعدام وجود صراع طبقي، كان المجتمع منسجما مع تعارض داخلي لا يرقى للتناقض الذي يفيد الصراع. لكن بمجرد أن تبدأ الملكية الخاصة في التشكل، فستبدأ الطبقية في الظهور وبالتالي ينتقل المجتمع المشاعي حتما، من خلال قانون التناقض هذا، المتمثل في الصراع بين الطبقات، لتنقل بعد تراكم كمي للصراع والتناقض بين طبقات المجتمع، إلى مرحلة جديدة من تاريخ هذا المجتمع، وإلى تشكيلة اقتصادية اجتماعية طبقية لأول مرة وهي المرحلة العبودية. فالتراكم الكمي للصراع، يؤدي حتما إلى تغير كيفي نوعي في شكل النمط الاقتصادي الاجتماعي. وهكذا كان المجتمع العبودي (الحضارة اليونانية ثم الرومانية.. والتي رأيناها ضمن المراحل التاريخية التي تحدث هناك التطوريون). كما أن المجتمع العبودي كتشكيلة اقتصادية اجتماعية حاملة لقانون التناقض المتمثل في الصراع الطبقي بين "الأسياد" وّالعبيد"، وعبر تراكم كمي لهذا الصراع، وبعد وصل إلى مرحلة الذروة من خذا التراكم، سيحصل هناك تعير وتحول وتتبدل في نمط التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية والانتقال نحو نظام جديد متمثل في"المرحلة الإقطاعية" بنفس قانون التناقض الجنيني الذي يتربى في أحشاء الإقطاعية: الصراع الطبقي بين طبقة الإقطاع وطبقة الأقنان الذي تطوروا من عبيد لا يملكون حتى أنفسهم إلى خدم يملكن أنفسهم ولا يملكون وسيلة عمل، لكنهم يعملون على ارض الإقطاعيين لقاء جزء من الناتج الزراعي. الإقطاعية إذن، في نظر النظر الماركسية، هو نفي للعبودية كما كانت العبودي نفي للمشاعية، فالإقطاعية هي "نفي النفي" بالنسبة للمشاعية، فكل مرحلة تنفي سابقتها وتلغيها لكن لا تمحيها، بل هو تشكل جديدة وشكل جدية متغير حامل لجوهر التناقض، الذي كلما بقي موجودا، بقي التغير مستمرا ومتواصلا إذ لا وجود للثابت في وجود تناقض. نفس القانون الذي هو قانون التناقض ونفس قانوني "التبدلات الكمية الكيف" وقانون "نفي النفي"، سيتحول المجتمع في مرحلة معينة من تطور المجتمع وعن طريق الصراع الطبقي المتأصل فيه، سينقل المجتمع الإقطاعي إلى تشكيلة اقتصادية اجتماعية جديدة هي "الرأسمالية" والتي بدورها ستبدو مرحلة الآمال والطموحات والحريات، لكن مع مرور الزمن، ستكون الرأسمالية نفسها باعتبارها حاملة لجني التناقض في أحشائها، سيصل بها المطاف تدريجيا وعن طريق التراكم الكمي للتناقضات والصراع بين طبقيتي المجتمع "العمال" (البروليتاريا)، والرأسماليين، ستنقل بحسب النظرية نحو مجتمع جديدة وتشكيلة اقتصادية اجتماعية جديدة وخامسة هي "الاشتراكية"، حيث تذوب الطبقات وتنمحي بحسب النظرية، بفعل نهاية الملكية الفردية التي كانت السبب في ظهور الطبقات وبالتالي الصراعات عبر مختلف التشكيلات، فيما خلا المشاعية البدائية الأولى، قبل أن يدب فيها الصراع بظهر الأسرة والملكية الخاصة بحسب النظرية.

الطبقية والصراع الطبقي إذن في الماركسية، هو الشكل المتجلي لقانون التناقض، ومادام أن التناقض موجودا، فالصراع والتغير باق.

من حيث اللولبية التطورية في النظرية، فإن العبودية هي النتيجة الحتمية لظهور الملكية الفردية، التي تشكلت عبر تشكل الأسرة، لهذا تشكلت الدولة لحماية أصحاب الملكية ضد من لا يملكون إلا قوة عملهم، سواء كانوا عبيدا ( Esclaves)، في المجتمع العبودي، أو أقنانا (Serfs) خلال المجتمع الإقطاعي، أو عمالا "كادحين" (بروليتاريا) (Prolétariat) في المجتمع الرأسمالي، فكلهم في نظر الماركسية نفس الطبقة متحولة تاريخيا، أو كما تسميها "طبقة اجتماعية محددة تاريخيا" (Une classe sociale historiquement déterminée)، نفس للشيء بالنسبة للطبقات السائدة المالكة لأدوات الإنتاج من "أسياد" (Seigneurs)، في المرحلة العبودية (L’esclavagisme)، أو " إقطاعيين" في المرحلة "الإقطاعية" (le Féodalisme)، أو "رأسماليين" في المرحلة"الرأسمالية" (Le capitalisme). فكل هؤلاء، هم نفس الطبقة تحولت مع الزمن وتغيرت وتبدلت ضمن سيرورة تاريخية معقدة وطويلة.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-