تجريبية جون لوك وإنكاره للأفكار الفطرية

  • عنوان المقال: تجريبية جون لوك وإنكاره للأفكار الفطرية

  • بقلم: نورالدين بقدير - باحث بسلك الدكتوراه

تجريبية جون لوك وإنكاره للأفكار الفطرية


في نهایة القرن السابع عشر میلادي أفصح الفیلسوف جون لوك ( 1704 م 1632) نظریة الأفكار الفطریة لأدق التفحص وكتابه المقال المتعلق بالفهم البشري 1690 في البحث في أصل المعرفة البشریة ویقینها ومداها ففي الباب الأول یشیر بوضوح إلى مقصده أن الفطریة وهي مذهب للحكم المسبب ولو كان قراره بارئا من الحكم المسبق لما كان انتقد المذهب بحد ذاته ولكن كفاه أن یبین أن الناس یمكنهم تحصیل جمیع المعارف التي بحوزتهم بمجرد استخدامهم قدراتهم الطبیعیة بدون معونة، أي انطباع فطري وأنهم یستطیعون البلوغ إلى الیقین التام بصدد عدد من الأشیاء بدون أن تكون بهم حاجة إلى أي تلك المعاني أو المبادئ الفطریة ([1]).

بمعنى أن لوك یعتقد أن الأفكار الفطریة هي مجرد أحكام مسبقة وانه یمكن تحصیل المعرفة دون اللجوء أو الاعتماد على أي أفكار فطریة ویمكن الوصول إلى الیقین (المعرفة الیقینیة) من دون مساعدة من هاته الأفكار.

ویبدي لوك هجومه على مذهب الفطرة في الصفحات الأولى من المقال الذي رسخ بین الناس وجود في الفهم بعض المبادئ الفطریة وبعض الأفكار الأولیة .. وأن الحروف إن جاز التعبیر مطبوعة في ذهن الإنسان والتي تتلقاه الروح في صمیم كینونتها الأولى وتولد معها ... وسیكون كافیا لكي أقنع القارئ غیر المتحیز ببطلان هذه الفرضیة وكیف أن للناس یمكن أن یصلوا إلى كل المعرفة التي لدیهم من دون مساعدة أي من الانطباعات الفطرية ([2]) فإذا كانت هناك أفكار فطریة مطبوعة في النفس الإنسانیة فیجب أن یعرفها الأطفال، فالطفل لا یمكن أن یعرف مثل هذه الأفكار إلا بالتعلم فهذا یعني أنه في حاجة إلى الخبرة وٕالى البرهنة على وجودها.

يقول جون لوك :ليس ثمة شيء في العقل لم يكن من قبل الحواس فلقد كان لوك يعتقد تقريبا بان العقل يلعب دورا سلبيا حيث انه يقوم فقط بتسجيل انطباعات الحس ،فالعقل صفحة بيضاء تطبع عليه الخبرة كل شيء ، هذا یعني أن العقل بالنسبة لجون لوك صفحة بیضاء وأن جمیع الأشیاء ترد إلیها من حواسنا بمعنى أن العقل خالي من أي أفكار مسبقة، فیذهب لوك إلى أن كل الأفكار أصلها في الحواس باعتبارها المصدر الأول لتلقي الانطباعات والادراكات، ولأن لوك رفض نظریة الأفكار فطریة فقد ذهب إلى أن كل أفكارنا ترجع إلى الخبرة التجریبیة.

فطالما أنه لا توجد أفكار فطریة فإن جون لوك ینتقل إلى تقدیم تفسیر سیكولوجي عظیم لطریقته التي نكتسب بها ألإفكار عن طریق التجربة ، فإن عقل الطفل یكون خالیا تمام من الأفكار، قبل أن یستقبل أي إحساسات من حیث أنها نتیجة مثیر لأعضائه الجسمیة فهو أشبه بخازنة فارغة من الأدراج أو صفحة بیضاء لم یُطبع علیها شيء أو قطعة من الورق الأبیض لم یكتب علیها شيء.

فمادامت الأفكار التي لدینا في عقولنا لیست فطریة فإن لوك یتساءل كیف استطاع " : العقل أن یتزود بها؟ إن إجابتي تتلخص في كلمة واحدة ... ''من التجربة'' وفوق هذا يعتبرها انها الأساس.

تقام معرفتنا برمتها ومنها تستمد كیانها في نهایة الأمر هناك نوعین من مصادر التجربة : الإحساسات الخارجیة والإحساسات الداخلیة او الحس الجسماني والتأمل فیما یفعله العقل بالأفكار المستمدة من الحس الجسماني یقول الإحساسات الداخلیة والخارجیة .. وحدها بقدر ما أستطیع أن أتبین هي النوافذ التي ینفذ منها الضوء إلى هذه الغرفة المظلمة یعني العقل، فأنا أعتقد أنه لا اختلاف بین الفهم وبین مقصورة منعزلة تماما عن الضوء ولم یترك فیها إلا فتحات صغیرة تسمح بنفاذ بعض أشباه المرئیات الخارجیة أو أفكار الأشیاء القائمة في الخارج ([3]) فالمعرفة كلها مستمدة أساسا من التجربة.

والتجربة عند جون لوك تتوقف أساسا على الإدراك المباشر للعالم المحیط بنا والذي یملكه الذهن بواسطة الحواس الخمس، وبالإضافة إلى أفكار الإحساس یعتقد لوك بوجود أفكار التأمل التي تحدث حیث یتأمل الذهن عملیاته ویقارن بین انطباعاته الحسیة وینظمها، إلا أن أحجار البناء الأساسیة لكل معرفة هي الانطباعات الحسیة.

یقصد لوك أن المصدر الأول الذي یزود أذهاننا بالأفكار هو موضوعات الحس اعتمادا على حواسنا التي تنتزع تلك الإحساسات وتوصلها إلى عقولنا وهذه العملیة تدعى بالإحساس. إذن فالحواس تنقل إلینا انطباعاتها وأفكارها عن الأشیاء الخارجیة بینما یقوم الفكر بعملیات الحس الداخلیة، و بهذا تعبر الأشیاء الخارجیة عن الكیفیات الحسیة بینما یمد العقل الفهم بأفكار عملیاته الخاصة، فالنفس تبدأ في الحصول على الأفكار عندما تبدأ في الإدراك الحسي لذلك فالإنسان یعبر عن حالتین عندما یفكر و هو نائم وعندما یفكر وهو یقظان فالعقل عند لوك لا یفكر إلا فیما یحصل علیه من الإحساس ، ولا یمكن أن نتصور حصول العقل على أفكار قبل أن یرتبط بالإحساس فالنفس لا تفكر دائما كما أن ملاحظتنا عن الأطفال تعطینا أكثر وضوح لهذین المصدرین فكلما اتسع مجال الأفكار الحسیة اتسع مجال أفكار التي مصدرها التأمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] -ايميل برييه ، تاريخ الفلسفة القرن 17 ، ترجمة جورج طرابيشي، صار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، ط 2 ،1983.
[2] - جون كوتنغهام ، العقلانية، تر: محمود محمد الهاشمي، مركز الإنماء الحضاري، حلب المنشية، بناية المحبة ، ص 84 ، 1977
[3] -ريتشارد شاخت، رواد الفلسفة الحديثة، ص-133- 13

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-